الأربعاء، 11 مايو 2016

عليك أن تختار


الحمد لله المنعم الستّار.. مكوِّر الليل على النهار، والصلاة والسلام على سيد الثقلين المختار، وعلى الآل والأصحاب من مهاجرينٍ وأنصار، ومن سار على نهجهم إلى درب العِليّين الأبرار، اللهم أخرجني من ظلمات الوهم، وأكرمني بنور الفهم، وحسِّن أخلاقي بالحلم، وزدني من بركات العلم، واجعلني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

يُولد الإنسان منّا على وجه لم يختر منه أياً من المقادير من حوله، فلم يكون لنا الخيار في الوطن الذي نعيش فيه، ولم نختر والدينا، لوننا، مجتمعنا، بل وحتى ديننا (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولكن.. هل هناك أشياء بإمكان الإنسان أن يختارها؟ أشياءٌ تحدد مصير حياته الدنيوية والأُخروية؟ نعم.. ليس ذلك فحسب، فالأشياء التي علينا اختيارها يجب أن تتم بدقة متناهية.. بعيدة عن شحنات الهوى ووسوسات شياطين الإنس والجن.

الدين:

يالي من متناقض، فقد قلت بأن الدين من الأشياء التي لم نخترها.. وذكرت نصاً استشهد به (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولكني هنا انظر إلى النص الشريف كاملاً: "ما من مولود الا ويولد بالفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". ولم يقل صلى الله عليه وسلم "أو يأسلمانه" لأن الفطرة التي وُلد عليها الإنسان ستقوده حتماً إلى الإسلام ما إن استخدم آلة عقله بالشكل السليم، وهنا تأتي المعضلة العظمى.. فالمسلم بحسب علمه بدين الفطرة ينقسم إلى أقسام: الأول عالم بالدين، ضليع في علوم الشريعة المختلفة من فقه وحديث وعقيدة وما ينبثق من كل أولئك من علوم تم تنقيحها وتداولها على أُسس منهجية علمية طوال 1400 سنة مضت، والثاني هو العاميّ الذي يكتفي بمعرفة الضروري من دينه الذي يستطيع من خلاله أن يُسيّر شؤون حياته، أما الثالث فهو عنده من المعلومات ما هو أكثر من العاميّ، لكنه غير منضبط بالمنهجية العلمية التي يتمتع بها العالم من جهة، ومن جهة أخرى غير مؤسسٍ على تزكية النفس التي لا تنفك اكتساب العلم في الأهمية (ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، فيقع في المحظور لظنه بأنه فوق العاميّ.. ولنا في سامريّ بني إسرائيل عبرة عندما قال لموسى عليه السلام: "بصرتُ بما لم يبصروا به"، فأمرهم بعد ذلك بعبادة العجل، ولنا في عمرو بن لحيي الخزاعي الذي جرجر الأصنام إلى جزيرة العرب وجعلهم يعبدونها من دون الله سبحانه، إنها ذات النظرية (بصرتُ بما لم يبصروا به)، هنا عزيزي المسلم.. إن لم يكن منهجك علمياً سليماً مقوماً بتزكية النفس والأخلاق، ولم ترجع إلى أهل الذكر عند وجود المعضلات والشبهات لاعتقادك بقدرتك الذاتية على المواجهة باكتساب معلومات هنا وهناك.. فاعلم أن العاميّ أفضل منك.. وبالذات ذلك العاميّ الذي سأل عن الصلاة والصيام والزكاة النبيَ صلى الله وعليه سلم وعلق على تلك الإجابات قائلاً:" والله لا أزيد على هذا لا أنقص". فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" أفلح إن صدق". فهو مطمئن الإيمان عارف بالعبادات، أما أنت فستصبح مثيراً للشبهات إن لم تكن مصنعاً لها، وستتبع هواك لحلها لأنك لا ترجع إلى أهل الذكر.. احذر، فإن ذلك بداية كل فتنة.. وأساس الفكر المندس في ذهن كل مفتون.

مصادر المعرفة:

وهنا أوصيك بعد أن حددت طريقة اكتسابك للمعلومات وما الذي تريده منها أن تنوع من مصادر المعرفة لديك.. فالخير ليس من باب واحد، وما دمت تتمتع بوجود أرضية صلبة متينة من المنهج العلمي الصحيح والأخلاق الرصينة فلا خوف عليك، حاول أن تناقش أفكارك العلمية وما يدور في ذهنك.. فليس ما تكتسبه من علوم قد يكون صحيحا مطلقاً، فالنقاش والمحاورة يعطيانك تنقيح تلك الأفكار، فإذا ظلت في داخلك سيكبر عندك الشعور بصحتها، وأما إذا بحت بها وقبلت النقاش حولها ستستطيع تنقيحها وتصويبها واكتساب المعلومات الصحيحة بدلاً من الخاطئة إن وجدت، سيساعدك على ذلك وجود التواضع وكسر النفس، وتذكر.. أن كلمة (يزكيهم) جاءت قبل (ويعلمهم الكتاب والحكمة).

الأصدقاء:

احرص على وجود أصدقاء نصوحين صادقين، يرشدونك الى الخير وإن قلت ساعات لقياهم.. فإن المرء على دين خليله، أو كما قيل فإن كل قرين بالمقارن يقتدي، هناك المعارف الذين ترميهم لك الحياة.. فاختر منهم الأفضل لتصاحبه، اختره بعناية بدون مجاملة.. فإن فعلت فأنت الخاسر، لأن أصدقاء السوء ليس من يؤثر في سلوك أخيه فحسب.. بل من يمتص طاقات وقدرات صديقه لخدمة أغراضه الشخصية بدون منفعة حقيقية دائمة، وكما قال الأولون من أهلنا على الطريقة الشعبية (الربع .. ياخذون منك ماتخذ)، أي ما استطاعوا أن يأخذوه منك فسيفعلون.

المعلم:

سواءً كان كاتباً، خطيباً، شيخاً.. عليك أن تسعى جاهداً نحو من يعلمك الخير، ولا تخجل من جهلك، فالاعتراف بالجهل يوصلك إلى حقيقة العلم، أما إدّعاء العلم فيوصلك إلى حقيقة الجهل، وقد دأب الملوك والخلفاء على دفع أولادهم ليتعلموا علوم الشريعة والتربية واللغة، ولنا في "هارون الرشيد" الخليفة العباسي المجيد عبرة، ولنا في "آق شمس الدين" مثالاً عظيماً في أثر المربي في إخراج جيل عامرٍ بالعلم والتقوى، كما هو الحال لأسد الدين "شيركوه".. فهذان الرجلان أخرجا لنا "محمد الفاتح" والناصر "صلاح الدين الأيوبي"، وهما من هما غنيان عن التعريف.

في خِضم حياة مليئة باختيارات الزمن، عليك أن تختار.. ما تصل به حياتك الدنيوية إلى بر الأمان، دون شكوك مهلكة، ودون أفكار بائسة عارضة، فلتكن معتنياً باختياراتك.

محمد حسن يوسف