السبت، 22 أغسطس 2020

الرأي.. ولا رأي آخر

استجاب والدي بطريقة سلبية جدًا لنصيحة احد أصدقائه عندما قال له:" عليك  أن تدخل ميدان "تويتر" لتناقش الآخرين بأفكارك. فرد أبي قائلًا:" أرأيت إن سبني أحدهم لرأيٍ قلته، وأخذ الأمر من حيز تفكيري طوال اليوم، هل يستحق؟ توقفت عند كلامه وفكرت رويدًا.. إننا فعلًا نعيش أزمة في صعيد تقبل "الرأي الآخر"، اعرف أنه مفهوم واسع فضفاض قد يوضع في أي قالب.. ولكن بوسعنا تطبيق هذه الكلمات كلٌّ من منظوره الشخصي، سائلين أنفسنا:" لماذا لا رأي آخر؟ لماذا واستنادًا على معلومات بسيطة قد تطن نفسك بأنك وصلت إلى لب الحقيقة.. وأنه لا حاجة لرأي آخر؟

الفجوة بين الجيلين:

كنّا في مجلس في محافظة المقترح تتم فيه مداولة النقاش حول "عزوف الشباب عن مجالس الكبار"، ادلى معظم المشاركين بدلوه حول الموضوع حتى شارك شاب عمره 32 عامًا.. واختلف معهم في امورٍ بسيطة مما أثار حفيظة أحد الحضور بقوله:" اسكت..شمدخله هالصغير معانه؟!". تحول البحث عن الرأي الآخر عبارة عن ألعوبة، فإذا وُجد الرأي الآخر كان لغرض دحضه فقط.. وليس لبحثه وتمحيصه والوصول لحقيقته، كما أن المعطيات التي أدّت بالكبير للوصول إلى رأيه تغيرت بوصول شاب صغير ذو معلوماتٍ وآفاق مختلفة.

المنع من التعبير:

عدم تقبّل الناس للرأي قد يعود بسبب عدم ترك الفرصة الكافية للتعبير، فنصف الرأي ليس كلّه.. وأغلب الناس لا يجيدون اللعب حول "خير الكلام ما قل ودل"، بل إن أحدهم ليحب أن يدور حول النقطة التي يريدها طويلًا حتى يشعرك بالملل، ويسهب ولا يوجز.. والبعض على النقيض يبدي وجهة نظره بشكل محدد، ثم يبدي معطياته والذي قاده لهذا الرأي.. النوعين يجب أن يحصلا على نفس القدر من الوقت للتعبير، فإذا لم يحدث ذلك حدث التالي.

التشنج:

بسبب مواقف سابقة بين صحفي معروف وإداري في لعبة كرة القدم، تسبب ذلك في شحناء مخفية لدى طرف من الأطراف.. مما حوّل اللقاء التالي بينهما على "الانستغرام-لايف" إلى شحناء غير مبررة من حيث الظاهر، كل ذلك بسبب التشنج، فالمواقف السابقة تزرع التشنج والرغبة في المعارضة والأخذ بالثأر في المواقف القادم وإلغاء "الرأي الآخر" مهما كان، التشنج يظهرك بمظهرٍ سيء أمام المحايدين.. ولا يعطيك الفرصة لإبراز وجهة نظرك على الأقل بالوجه الذي يرضيك، كنت قد جلست مع شخصٍ من فئة ال " لا أدري"، وقال لي شيخ الدين الذي معنا:" ستجلس معنا بهدوء، فإن احسست بالغضب والتشنج عليك المغادرة.. لأنك لن تنفعنا بل ستضرنا".

الجهل:

"المرء عدو ما يجهل" .. وغياب المعلومات وتحديثها وغياب الذكاء العاطفي في السيطرة على النفس قد يوقعك في مستنقع رفض الرأي الآخر فقط لأنه "آخر"، بدون حجة أو بيان ظاهر، فالجهل طريقٌ سالك إلى التشنج والصراخ على الرأي الآخر.. قام أحدهم "باحث" في محاضرة بأحد المجالس يتحدث فيها عن "الخلع في الإسلام" .. واسهب في ذكر أن هذا الأمر ليس من الإسلام في شيء.. فثارت ثائرة شيوخ الدين صراخًا وغضبًا على الرجل، وليس لأحد أن يفهم لماذا يهاجمون الرجل.. وما هي حجتهم الظاهرة من كثرة الصراخ، تبيّن فيما بعد بأن "الباحث" اضطر لخلع زوجته في المحكمة، وقد عزم للثأر لنفسه عبر ترويج فكرة عدم جواز الخلع.. فتم عقد مناظرة علمية بين الباحث وأحد الأشخاص.. مناظرة علمية تقوم على الحجج العقلية والعلمية المنهجية بشكل هادئ حتى تصل الفكرة بدون صراخ وعويل، كان أحد الأشخاص هذا هو "ابن الباحث"، يقول: تصديت أنا لأبي في هذا الموقف.. ولا اعتقد بأن الحضور قد علموا بأنه أبي لانعدام الشبه".

أي قضية تريد الدفاع عنها بجهل فاعلم بأنه لا رأي لك بعد.. فليس لك الحق بأن تقصي غيرك على جهالة، فإذا كان الحق معك فللحق مسلكًا ومنهاجًا.

الكبر:

دعوني أقول بأن الكبر لا يمنعك من رؤية الرأي الآخر.. بل يمنعك من الاعتراف بها (يعرفونه كما يعرفون ابناءهم)، وما منع قريشًا في التسابق لدخول الإسلام إلّا هذا.. وقد غشّى أعينهم الكبر. فكان أحدهم يعبدُ صنمًا من تمرٍ.. فإذا جاع أكله، وكانوا عالمين بأن من ينجيهم من أمواج البحر العاتية لهو إله السماء فقط، لا من يتقربون إليهم بذبح الجزور والركوع أمامهم، بل كانوا يرون كيف تحدى الله سبحانه الوليد بن المغيرة وأبا لهب بأنهما من أصحاب الجحيم.. ومات الرجلان على الكفر، ولا يحركوا ساكنًا، كانوا شاهدين على موت العاص بن وائل، ولكنهم مضوا في كبرهم بالابتعاد عن الحقيقة الدامغة.. وساروا في نهج الانحلال العقائدي والأخلاقي.

أخيرًا ..  "يورجن كلوب" المدرب المعروف في كرة القدم، يركض بعد نهاية الشوط الأول إلى غرفة الملابس ليتعرف إلى الاحصائيات التي جمعها مساعدوه.. ليتخذ بعدها القرارات المناسب، "ماركوس باكيتا" عندما كان يعمل في قطر تحديدًا.. كان يضع سماعات ويتحدث إلى المساعد في المدرجات ليعطيه بعض الملاحظات.. اجتهد الكثير من العلماء للوصول إلى الحقيقة عبر التنقيح ومناظرة بينا رأيٍ وآخر، فها هو الشافعي يطلب العلم في العراق على يد محمد بن الحسن الشيباني ثم يناظره فيما بعد.. وجود الرأي الآخر ظاهرة صحية، والرغبة في كبح جماحه وتقييده وقتله جريمة لا تغتفر، حاول أن تعرف شيئًا من كل شيء .. ولكنك لن تعرف كل شيءٍ عن أي شيء.

 

محمد حسن يوسف