الثلاثاء، 6 يناير 2015

ونفس وما سواها .. نظرة تحليلية (1)

الحمدلله الواحد الأحد .. الفرد الصمد .. الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، والصلاة والسلام على حامل لواء الحمد الأوحد .. نبي الله أحمد ، وعلى الآل والأصحاب ، والتابعين ومن بعدهم لله وحّد .. اللهم أكرمني بنور الفهم ، وأخرجني من ظلمات الوهم ، وحسن أخلاقي بالحلم ، وافتح علي من بركات العلم ، و اغفر لي كل ذنب يحجب عني رحمتك .

تتعرض كل نفس بشرية إلى عدة عوامل تؤثر في قرارتها واهتماماتها .. تتفاعل تلك النفس مع تلك العوامل بصورة مختلفة باختلاف الأشخاص والظروف كما سنحلل في هذه السطور البسيطة .. ما هي تلك العوامل التي منها نستمد أفكارنا ، ونستخلص من تلك الأفكار قرارتنا ؟ كيف نحمي قلوبنا وعقولنا أمام "فيروسات النفس البشرية " التي تسبب لنا أمراضاً متعددة سنتناولها في سياغ الكلام ؟! اللهم وفق لما تحبه وترضاه .

لنبدأ بتحليل الإنسان من داخله أولاً .. هو كائنٌ تتكون بداخله نفس تدعوه إلى السعي وراء ملذات الحياة ، تلك النفس محكومة بأوامر إلهية تجبر الإنسان على التخلي عن ملذاته ، وضح الله تلك العلاقة بين تعليماته سبحانه وبين ملذات الإنسان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حينما قال : "حُفّت الجنة بالمكاره ، وحُفّت النار بالشهوات " .. أي أن الإنسان إذا سار خلف شهواته بدون انضباط بتعليمات الله سبحانه فيؤول به المآل إلى النار ، أما إذا سار بما يخالف هواه .. ويجبر جسده و روحه على الإنصياع لاوامر الله سبحانه وحده بالرغم من معرفته بمخالفته للهوى بداخله  .. لكنه يقوم بتلك الأوامر بمقتضى عبوديته لله سبحانه .. فإن ذلك الأمر سيمهد له الطريق إلى الجنة حتماً بعد نيله رضا الله سبحانه عنه ورحمته .

" فألهمها فجورها وتقواها " .. يأتني هنا الإلهام – أو كما نسميه الخاطر -  إذا أردنا تشبيهه بصورة مقاربة للقارئ ، هو كالجراثيم الكثيرة المنتشرة في الجو .. لكن بعضها فقط من يسكن في الإنسان فيسبب له المرض ، كذلك الخواطر .. تنتشر بين الناس .. فإذا تفاعلت تلك الخواطر مع الهوى البشري الدافع إلى فعل الملذات فقد تسبب بعض الأمراض الفتاكة .. لا نستطيع أن نمنع الأمراض ( أو الخواطر هنا ) من الدخول في عقل الإنسان .. لكننا نستطيع أن نحصن قلوبنا وعقولنا أمامها ، وندير تلك الخواطر .. ونمنع هوى النفس بالتفاعل معها بشكل سيحد نوعاً ما من ولوج الأفكار الشيطانية بداخلنا .

مثال على إحدى الخواطر : سأستخدم هنا مثالاً مباحاً لنا ... لنعلم التدرج في التفاعل بين الخاطر إذا ورد على النفس البشرية ، قد يقول أحدهم بلهجتنا الدارجة : " خاطري في هالوجبة " ( يسميها تحديداً) .. ذلك الخاطر ليس مرتبطاً بحالة معينة ، قد لا يكون هذا الشخص جائعاً في الأصل ، وليس مرتبطاً بزمن معين ، قد لا يكون وقت الخاطر بالوجبة قد وقع في وقت اعتاد الناس أن يأكلوا فيه .. لكن إن استسلم الإنسان للخاطر فإنه سوف يلتفت إلى ما يملكه من امكانياته ستوصله للحصول على تلك الوجبة سواءً كانت وسيلة مواصلات ، أم توافر المادة لسداد رسوم تلك الوجبة .. أو أي وسائل أخرى من شأنها أن تغيره ليشتري تلك الوجبة  ، بعد ذلك يأتي القرار الذهاب إلى مكان بيع تلك الوجبة .

هذا مثال بسيط لأحد الخواطر المباحة .. السؤال هو : لو أننا تعرضنا لبعض الخواطر التي ستقودنا إلى أفكار شريرة شهوانية ، تتفاعل معها أنفسنا البشرية بشكل أسرع ، ونتائجها ستكون وخيمة ؟ هل مواجهة تلك الخواطر ستكون سهلة ؟ ماذا نحتاج ؟
اعلم عزيزي القارئ بأنك ستخوض أكبر حرب على مدار حياتك .. وهي الحرب ضد خواطر السوء ، تلك الخواطر التي ستسعى لتلتهمك وتتغلب عليك .. خاصةُ في حال خلوتك وفراغك ، لذلك .. استشعارك بأن إلهك سبحانه سيكون أهون الناظرين إليك لأنك ستسلم لخواطر السوء ، سيدفعك ذلك إلى مقاومة تلك الخواطر ومناجزتها ، اعلم أن وجود الفراغ في حد ذاته هو مصيبة .. واستغلالك لوقتك بطريقة تمنع وصول الفراغ لن يعطي المجال لخواطر السوء من التوغل بداخلك ، قال عبدالرحمن الناصر رحمه الله خليفة الأندلس : " عددت أيام الراحة والرخاء ، فوجدتها لا تزيد عن ثمانية عشر يوماً " . هكذا العظماء ، فإذا غاب الفراغ من حياتك .. لن تجد خواطر السوء متسعاً من الوقت لتتفاعل مع هوى نفسك و توقعك في شر الأعمال .

إن وصلت إلى انجاز معين في حياتك .. فذلك بفضل تلك الخواطر الحسنة التي ألهمك أياها الباري عز وجل ، ولكن .. مازال هناك متسع لخواطر السوء للورود على نفسك البشرية .. المستعدة دوما للمضي في طريق الشهوة سواءً كانت ظاهرة أم خفية ، تذكر .. أن كل ما تملك من امكانيات ومهارات ، هي من عند الله سبحانه وحدة .. هو الذي ألهمك اكتشافها وصقلها وتطويرها ، رزقك الانجاز لتتفكر فيما عليك أن تفعله بعد ذلك ، لا لتربط نفسك بتلك اللحظة فقط .. عليك حماية قلبك من العجب ، الذي من علاماته هو لوم الآخرين والانتقاص من قدرهم في حال خسارتك لمنافسة ما .. أو انتقاد من هم حولك بدون الالتفات إلى ما عليك أن تسعى إلى تطويره ، الاستسلام لخواطر السوء نتيجته هي التكبر على الحق وعدم تقبله .. لأنه يخالف هوى النفس .. أما التقييم الدقيق القائم على الحقائق والامكانيات المتاحة والمهارات المستخدمة هو سبيل المؤمنين الأقوياء .. المتواضعين .
يتبع ...

محمد حسن 

الاثنين، 5 يناير 2015

مرضٌ شبابي .. خفي

الحمدلله رب الأرباب .. مسبب الأسباب ، ينعم بفضله و كرمه و جوده على عباده الصالحين والعصاة ومن تاب ، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للأكوان حتى الدواب .. اللهم أكرمني بنور الفهم ، وأخرجني من ظلمات الوهم ، وحسن أخلاقي بالحلم ، وافتح علي من بركات العلم ، يا عليم .

نمر في هذه الدنيا بمراحلة عدة .. ليس لها علاقة بعدد السنين وعدّاد الأعمار ، بل هنا أعني مرحلة الشباب فقط ( وعن شبابه ..  فيما أبلاه؟! ) ، تتجزأ فيها المراحل كما سترون .. فمن يزكي نفسه ، ويعمل بشغف ، ستتحدث انجازاته عنه .. و إن لم يعطه أهل الدنيا حقه .. سيأتي له يوم يقف أمام محكمة العدل الإلهية ، حيث لا هروب ولا مناص من الحق .. و أما من ران على قلبه غلاف أسود ، يشتد سواداً فترة بعد فترة .. سيتعرض إلى مراحل عدة ، فالحياة لها نغزات .. و قرصات .. وهزات ما تلبث أن تتحول إلى صفعات ، تلك سنة الله سبحانه في الكون .. فلا يأخذك بغتة بالعقاب .. ولا يرميك في دائرة النسيان إلا بعد أن ينزل عليك التحذيرات و الإشارات ..

" ما يطفح إلا اللوح " .. ذلك الجماد الذي يطفو على سطح الماء بسبب التجويف الذي بداخله ، يعبر آباؤنا بتلك الصورة العميقة بالشخص الذي تتاح له الفرصة الدنيوية  فيتصدر الناس في مجال معين و يبرز عليهم وهو لا يستحق ذلك .. قد تتاح الفرصة لبعض الشباب أن يتصدروا مجتمعاتهم لعوامل لا دخل لهم فيها ، أو ربما كانت فرصة قدمت لهم على طبق من ذهب دون سابق إنذار ..  إنها من الإنذارات الإلهية ، إن لم تكن قيمت نفسك تقييما مجرداً من هوى النفس ، وأحطت نفسك بالذين يهزونك إن أخطأت ، وينبهونك إن انحرفت ، ولم تزرع أنت التواضع في نفسك لتسمع تنبيه غيرك ، ولم ترغب في مواصلة مشوار الإستزادة من رصيد العلم ، بل اعجبتك شهوة البهرجة وأردت أن تعيش في غمارها .. فاعلم أنك قد وقعت في شراك هوى نفسك ، وظننت بأنك " أيها اللوح " قد ظهرت على غيرك .. ونسيت بأن الدرر و الجواهر مكنونة في قاع البحار وليس على اسطحها .

قد لا يلتفت الشاب إلى ما يحيط به .. ويغرر به ، فتنتهي مرحلة " اللوح " ، وتأتي مرحلة أخرى وهي مرحلة " الطبل " ، قد نستخدم في حياتنا الدارجة اسم " الطبل " ونعني به الإنسان الذي لا يشغل آليات عقله بالطريقة السليمة .. ولكن هنا أطلق اسم " الطبل " على شباب .. غررت بهم مرحلة " اللوح " ، أصبح لديهم الوقت الكافي لإصدار النصائح و توجيه المجتمع و قيادته .. صاروا يصدرون أصواتا .. وهم من الداخل فارغون ، يمضون في الحياة بلا وعي بما أنعم الله عليهم من مهارات و قدرات .. و بلا تركيز على نواقصهم وعيوبهم ، فيصرفون أوقاتهم فقط في توجيه المجتمع ، ولو أن الإنسان كان نظره حاداً على عيوبه لكفاه ذلك النظر من أن يصدر أصواتا لا تتناسب مع مكنوناته الفارغة كونه " طبل " ، أصبح البعض الآخر وبشكل وقح مريض يستغل ورقة " اللوح " البارزة أمام المجتمع .. فيغرر به ليصدر أصواتا لخدمة غيره ،  في هذه المرحلة .. يحتاج الإنسان إلى علاج عاجل .. فالصفعة قد اقترب موعدها ، ولا ندري هل ستتبعها صفعة أخرى أم ضربة قاضية ؟!

وجدت في كتاب " صيد الخاطر " لإبن الجوزي، وشروح الحكم العطائية لمشايخ كثر علاجاً مداوياً لمرض هوى النفس .. تلك الكتب ستفي بالغرض ، ولكن..هل نتجرد نحن من هوى النفس ، ونقف وقفة مع أنفسنا ونتأمل موقعنا من خارطة المجتمع ؟! تلك الخارطة التي نضعها نحن لأنفسنا بما نملك من مهارات و آليات .. وبما ينصحنا به أهل الخبرة و الفضل في المجتمع ، فالإنسان مهما بلغ من مراتب العلم لا يمكنه اقتحام الحياة لوحده في كل شيء .. فذلك سيودي به في عزلة نفسية .. او أنه سيكون هدفاً سهلا لكي يستغله البعض ، كونه " طبل " .

هنا .. وفي مرحلة متأخرة من مرض سرطان هوى النفس ، يظن المريض بأنه قد وصل إلى مرحلة تمام البنيان .. ولكن ، أي بنيان ؟! قد يعتقد بأنه حقق ذاته .. هل تم تحقيق ذاته فعلاً ، أم أنه نفذ ما تمليه عليه شهواته ؟! شهوة البروز والرفعة بدون منفعة .. شهوة القيادة بدون انتاجية فعالة ، بنيانٌ مؤسس ٌ على مرض هوى النفس القاتل .. هنا ، أقول للشاب : لو أنك كتبت الأشياء التي فعلتها في حياتك .. التي تظن بأنك سدت المجتمع بها ، وسلبتها من المجتمع الذي ظننت أنك قائده .. مالذي سيبقى من تلك الأشياء ؟! " الحياة ماشية ..  بك أو بدونك " ، فاختر لنفسك البنيان الذي تريد أن تشيده .. هل هو مؤسسٌ على مبادئ تزكية النفس ومعرفة عيوبها ، واستغلال المهارات والامكانيات استغلالاً في محله .. مع التقييم الدقيق المتجرد ، أم أنه بنيان شيدته " على شفا جرفٍ هارٍ " ؟!

محمد حسن