السبت، 22 أغسطس 2020

الرأي.. ولا رأي آخر

استجاب والدي بطريقة سلبية جدًا لنصيحة احد أصدقائه عندما قال له:" عليك  أن تدخل ميدان "تويتر" لتناقش الآخرين بأفكارك. فرد أبي قائلًا:" أرأيت إن سبني أحدهم لرأيٍ قلته، وأخذ الأمر من حيز تفكيري طوال اليوم، هل يستحق؟ توقفت عند كلامه وفكرت رويدًا.. إننا فعلًا نعيش أزمة في صعيد تقبل "الرأي الآخر"، اعرف أنه مفهوم واسع فضفاض قد يوضع في أي قالب.. ولكن بوسعنا تطبيق هذه الكلمات كلٌّ من منظوره الشخصي، سائلين أنفسنا:" لماذا لا رأي آخر؟ لماذا واستنادًا على معلومات بسيطة قد تطن نفسك بأنك وصلت إلى لب الحقيقة.. وأنه لا حاجة لرأي آخر؟

الفجوة بين الجيلين:

كنّا في مجلس في محافظة المقترح تتم فيه مداولة النقاش حول "عزوف الشباب عن مجالس الكبار"، ادلى معظم المشاركين بدلوه حول الموضوع حتى شارك شاب عمره 32 عامًا.. واختلف معهم في امورٍ بسيطة مما أثار حفيظة أحد الحضور بقوله:" اسكت..شمدخله هالصغير معانه؟!". تحول البحث عن الرأي الآخر عبارة عن ألعوبة، فإذا وُجد الرأي الآخر كان لغرض دحضه فقط.. وليس لبحثه وتمحيصه والوصول لحقيقته، كما أن المعطيات التي أدّت بالكبير للوصول إلى رأيه تغيرت بوصول شاب صغير ذو معلوماتٍ وآفاق مختلفة.

المنع من التعبير:

عدم تقبّل الناس للرأي قد يعود بسبب عدم ترك الفرصة الكافية للتعبير، فنصف الرأي ليس كلّه.. وأغلب الناس لا يجيدون اللعب حول "خير الكلام ما قل ودل"، بل إن أحدهم ليحب أن يدور حول النقطة التي يريدها طويلًا حتى يشعرك بالملل، ويسهب ولا يوجز.. والبعض على النقيض يبدي وجهة نظره بشكل محدد، ثم يبدي معطياته والذي قاده لهذا الرأي.. النوعين يجب أن يحصلا على نفس القدر من الوقت للتعبير، فإذا لم يحدث ذلك حدث التالي.

التشنج:

بسبب مواقف سابقة بين صحفي معروف وإداري في لعبة كرة القدم، تسبب ذلك في شحناء مخفية لدى طرف من الأطراف.. مما حوّل اللقاء التالي بينهما على "الانستغرام-لايف" إلى شحناء غير مبررة من حيث الظاهر، كل ذلك بسبب التشنج، فالمواقف السابقة تزرع التشنج والرغبة في المعارضة والأخذ بالثأر في المواقف القادم وإلغاء "الرأي الآخر" مهما كان، التشنج يظهرك بمظهرٍ سيء أمام المحايدين.. ولا يعطيك الفرصة لإبراز وجهة نظرك على الأقل بالوجه الذي يرضيك، كنت قد جلست مع شخصٍ من فئة ال " لا أدري"، وقال لي شيخ الدين الذي معنا:" ستجلس معنا بهدوء، فإن احسست بالغضب والتشنج عليك المغادرة.. لأنك لن تنفعنا بل ستضرنا".

الجهل:

"المرء عدو ما يجهل" .. وغياب المعلومات وتحديثها وغياب الذكاء العاطفي في السيطرة على النفس قد يوقعك في مستنقع رفض الرأي الآخر فقط لأنه "آخر"، بدون حجة أو بيان ظاهر، فالجهل طريقٌ سالك إلى التشنج والصراخ على الرأي الآخر.. قام أحدهم "باحث" في محاضرة بأحد المجالس يتحدث فيها عن "الخلع في الإسلام" .. واسهب في ذكر أن هذا الأمر ليس من الإسلام في شيء.. فثارت ثائرة شيوخ الدين صراخًا وغضبًا على الرجل، وليس لأحد أن يفهم لماذا يهاجمون الرجل.. وما هي حجتهم الظاهرة من كثرة الصراخ، تبيّن فيما بعد بأن "الباحث" اضطر لخلع زوجته في المحكمة، وقد عزم للثأر لنفسه عبر ترويج فكرة عدم جواز الخلع.. فتم عقد مناظرة علمية بين الباحث وأحد الأشخاص.. مناظرة علمية تقوم على الحجج العقلية والعلمية المنهجية بشكل هادئ حتى تصل الفكرة بدون صراخ وعويل، كان أحد الأشخاص هذا هو "ابن الباحث"، يقول: تصديت أنا لأبي في هذا الموقف.. ولا اعتقد بأن الحضور قد علموا بأنه أبي لانعدام الشبه".

أي قضية تريد الدفاع عنها بجهل فاعلم بأنه لا رأي لك بعد.. فليس لك الحق بأن تقصي غيرك على جهالة، فإذا كان الحق معك فللحق مسلكًا ومنهاجًا.

الكبر:

دعوني أقول بأن الكبر لا يمنعك من رؤية الرأي الآخر.. بل يمنعك من الاعتراف بها (يعرفونه كما يعرفون ابناءهم)، وما منع قريشًا في التسابق لدخول الإسلام إلّا هذا.. وقد غشّى أعينهم الكبر. فكان أحدهم يعبدُ صنمًا من تمرٍ.. فإذا جاع أكله، وكانوا عالمين بأن من ينجيهم من أمواج البحر العاتية لهو إله السماء فقط، لا من يتقربون إليهم بذبح الجزور والركوع أمامهم، بل كانوا يرون كيف تحدى الله سبحانه الوليد بن المغيرة وأبا لهب بأنهما من أصحاب الجحيم.. ومات الرجلان على الكفر، ولا يحركوا ساكنًا، كانوا شاهدين على موت العاص بن وائل، ولكنهم مضوا في كبرهم بالابتعاد عن الحقيقة الدامغة.. وساروا في نهج الانحلال العقائدي والأخلاقي.

أخيرًا ..  "يورجن كلوب" المدرب المعروف في كرة القدم، يركض بعد نهاية الشوط الأول إلى غرفة الملابس ليتعرف إلى الاحصائيات التي جمعها مساعدوه.. ليتخذ بعدها القرارات المناسب، "ماركوس باكيتا" عندما كان يعمل في قطر تحديدًا.. كان يضع سماعات ويتحدث إلى المساعد في المدرجات ليعطيه بعض الملاحظات.. اجتهد الكثير من العلماء للوصول إلى الحقيقة عبر التنقيح ومناظرة بينا رأيٍ وآخر، فها هو الشافعي يطلب العلم في العراق على يد محمد بن الحسن الشيباني ثم يناظره فيما بعد.. وجود الرأي الآخر ظاهرة صحية، والرغبة في كبح جماحه وتقييده وقتله جريمة لا تغتفر، حاول أن تعرف شيئًا من كل شيء .. ولكنك لن تعرف كل شيءٍ عن أي شيء.

 

محمد حسن يوسف

الاثنين، 25 مايو 2020

المبادرة والخطأ

عندما أشاهد مباراةً في لعبة التنس الأرضي ألحظ بأن مهارات الاعبين قد تكون متقاربة إلى حد كبير، الاختلاف يكون في الشخصية الممسكة بالمضرب من جهة.. ونوعية القرارات وتوقيتها من جهة أخرى، هنا تتباين عندي التصنيفات للاعبين، فأعشق لاعبًا معينًا.. ولا أميل إلى آخر، الخوف من المكسب قد يطيح بلاعب من بطولة كبرى بعد أن كان قد قاب قوسين أو ادنى من الفوز.

راجعت قرارتي في الرياضة بشكل عام في الرياضة والفِرق التي أشجعها فوجدتها متلائمة مع بعضها البعض.. فأنا عاشق للأسلوب الهجومي بشكل عام، قد يعجبني ذلك لأنني افتقد الإقدام الهجومي المطلوب كمبادر شبابي.. ولا أرى أنه ينقصني شيء عن الشباب المبادر في الساحة.. غير أني لا أتمنى ما فضّل الله سبحانه به غيري علي.. بل انهض لمساعدته اذا استدعى الأمر، اما مع لعبة التنس، فأنا متابع للسويسري "روجير فيدرر" منذ عام 2005م، في هذه المرحلة أريد أن اغوص إلى منطقة أكثر عمقًا.. من أجل خيرٍ لي ولقارئ هذه السطور، "روجير" لاعب يفضل الأسلوب الهجومي.. يساعده في ذلك قوة ضرباته الأمامية وسرعة حركة قدميه وتمركزه بقرب الخط الخلفي لفرض هذا الأسلوب، عندما يخرج عن التركيز ويغضب فإنه لا يتحرك بشكل جيد ويرتكب العديد من الأخطاء.

الدرس: دائمًا الشخص الذي يقرر المبادرة دائمًا ولا ينتظر هو عرضة لارتكاب الأخطاء، لا سيما في بداية مشواره.. بل قد تكون تلك الأخطاء لا يمكن تصور وقوعها ابتداءً، "روجير" بالرغم من أسلوبه الهجومي إلا أنه كان يخسر بعض المباريات لأنه كان "يخطئ" في كثير من الأحيان، "روجير" في عمر الثامنة والثلاثين إلا أنه لا يغير من طريقته في اللعب، فالهجوم والصعود إلى الشبكة والارسال الجيد، كل تلك الأمور ما زالت على طبيعتها، لقد عوّد نفسه على خلق الحدث والتحكم بوقوعه ولا يمكنه التراجع أو التقاعس عنه، هذا الرتم يخلق منه شخصًا مبادرًا لا ينتظر.. وما أحوجنا لهذا الأمر اليوم (أنا تحديدًا).. نحتاج للتقديم ونفع المجتمع وخلق الفرص.

  عزيزي الشاب .. في أول مراحل مبادرتك لن تصل إلى مرحلة النضج التي مر بها شخص مارس المبادرات الشبابية طويلاً، ما يعيبنا في بداية مشوار حياتنا هو عدم تقبلنا للوقوع في الأخطاء وارادتنا لأن تكون تجاربنا التطوعية متكاملة منذ البداية، كما أن المجتمع لا يساعد (في كثير من الأحيان) الشاب في النهوض بتجربته ويسرع في اطلاق الأحكام، الانفعالات العاطفية والتي تتسبب في خروج "روجير" عن التركيز الذهني المطلوب قلت بشكل كبير، فنجده عندما يفوز بنقاط مهمة وخيالية بأنه لا يتفاعل ولا يعبر بأي شعور، لقد تعلّم "روجير" من حصيلة الخبرة المكتسبة بان الخروج عن التركيز قد يقلب الأمور رأسًا على عقب، عليك أن تمسك بالحاضر وتنطلق إلى القادم بسرعة، لأن القادم هو الأهم.. احتفل بإنجازاتك الصغيرة كما ينبغي (وليس كما تشاء)، واحرص على أن ترى الهدف "جيدًا" ولا تصرف ذهنك عنه، قد يرى البعض بأن كثرة النصائح في موضوع "الهدف" ومدى وضوحه وأهمية ذلك عبثًا لكثرة تكرار ذلك، ولكن الواقع يقول بأن الإنسان قد ينسى ويحيد عن السكة المخطط لها لأنه لا يركز على هدف محدد، بل إن البعض قد لا يستطيع صياغة هدفه بوضوح.

يقول "روجير" : "بعد هذا العمر الطويل انا مضطر لتغيير بعض الأمور لأستمر" فأصبح ينوع بذكاء ضرباته من حيث القوة.. فنجده يدافع أحيانًا بضربات منخفضة لا تعطي المهاجمين الوتيرة اللازمة، ولا يعني ذلك بأنه غير من أسلوبه الهجومي الذي تكوّن عليه.. ولكنه شعر بضرورة ذلك مما أعطاه روحًا جديدة للعب، وكذلك انت عزيزي الشاب،  جميلٌ أن ترى شابًّا متنوع المهارات والهوايات.. متنوع المعارف والخبرات، فالتنقل بين الهوايات يعطيك دافعًا للمضي قدمًا نحو هدفك، ويساعدك لتفريغ الشحنات السلبية في ذهنك، ومصدرًا والهامًا للتجارب القادمة .. والأهم أن تتشارك بتجاربك العملية والمعرفية مع مجتمعك، فالنبات يصنع غذاء بالتعرض لأشعة الشمس.. وليس بالحبس في الظلام، كذلك الأفكار.. لا تنضج وهي بداخل رؤوس أصحابها، فشاركنا وعلّمنا وألهمنا بتجاربك، لتكون سراجًا لغيرك.

محمد حسن يوسف

الاثنين، 6 أبريل 2020

اصنع عالمك "الحقيقي"


هذا المقال باللهجة العامية الدارجة، للعلم..

في موضوع حاب اشارككم فيه، وأتمنى نتعامل معاه بالجدية اللازمة لأن وايد قاعدين نفرط في اوقاتنا، وقاعدين نستنزف طاقاتنا.. في المقابل، المخزون المعرفي اللي عندنا مو قاعد يزيد، الذكاء العاطفي "محلك سر"، مهاراتنا وخبراتنا مرهونة ب "event  " نسجل فيه كمتطوعين.. وعقب ما انخلص الغالبية العظمى منا يكون فيه شعور عاطفي مؤقت، وبعدين .. مافي شي؟! موضوعي الي ابي أتكلم فيه معاكم هو مشكلة "صنع عالم افتراضي"، وايد قاعدين نعتقد بأن انتاجنا ونشاطنا في العالم الافتراضي اهو الإنتاج الحقيقي، هذي الشيء له علاقة بتصحيح وايد من المفاهيم السلبية الي نحتاج انحددها علشان ما يصير الكلام سردي وغير موضوعي.

أول مفهوم حاب اطرحه هو مفهوم "اليوم الفعّال"، هذي اليوم اللي علاقتك فيه مع ربك اتزيد .. قاعد اكلمكم من هالناحية وانا مو ملتزم (مو مطوع)، ما عندي ورد خاص اقره فيه من القرآن الكريم (وهالشيء غلط وانا حاولت في هالازمة أني اعدل من نفسي)، كل اللي في بالي أن لازم في ضروريات اعرفها من الدين.. إذا أببي اتواصل مع ربي عندي "الصلاة"، وإذا أببي أن ربي سبحانه يتواصل معاي عندي "القرآن الكريم"، مو المطلوب منك ان تصير علامة زمانك لكن اسأل نفسك.. ربك الي خلقك وأنعم عليك نعم ما تقدر اتعدها، جم له من يومك؟ هل بنفس القدر الي تتعامل فيه مع وسائل التواصل الاجتماعي ( الوسيلة الافتراضية الي اتحاول تشرد من واقعك من خلالها واتحاول تصنع فيها مثالية مو حقيقية)؟

"القراءة" .. وهذي بحر وايد عود، وايد ناس يشترون وايد كتب.. بس الاحصائيات اتقول ان شبابنا عندهم نزوح عن القراءة، إذًا .. التصور في معارض الكتاب والاستعراض "غالبًا" افتراضي ومو حقيقي، احنا نحتاج انعرف شلون انوجه طاقتنا حق القراءة، احنا مانعرف شنو لازم نقره، ناخذ الكتب ونعتقد أنها تناسب ميولنا.. ومع أول عشرين والا ثلاثين صفحة ينفلت الكتاب إلى أن يشاء الله، بالنسبة لي.. كنت أشارك في أنشطة تطوعية وايد من سنة 2001م، وكنت احتاج أحد يعرفني على شخصيتي، كنت احتاج اعرف نماذج في التاريخ ومواقف تناسب فكري وتدفعني إني أكون انسان أفضل .. حدد ميولك واستفيد من وقتك، واتجه صوب القراءة الفعّالة.. مو القراءة "الفوضوية" إن صح التعبير.

"المسلسلات" .. انا واحد متابع للمسلسلات التركية أكثر من غيرها مع علمي بعيوبها في التأليف والإخراج، الحلقة مدتها ساعتين في الأسبوع، الفترة طويلة.. لذلك أنا ماقدر اتابع أكثر من 3 مسلسلات في وقت واحد، انتقي مسلسلاتي بناءً على عدة عوامل:

1- الفكرة: طبيعة القصة والهدف المنشود.

2- القوى المعادية: الممثلين الأعداء الي يعيقون البطل من الوصول إلى هدفه ويخلونه تحت المعاناة.

3- البطل: الممثل القادر على توضيح المعاناة الي قاعد يعيشها.

4- المخرج: كل لقطة يختارها لها معنى.. وكل ممثل اختار المخرج لقطته من بين اللقطات لغرض محدد.

أي نقطة من ذلين ما استوفيها من المسلسل .. أوقف متابعته فورًا، خلك ذوِّيق وانت تتابع مسلسلاتك، إذا ارتقيت بفكرك بتطالع المسلسلات بعين ثانية تمامًا، وبتتغير نظرتك عن وايد سلسلات جفتها من قبل.. يومك الفعّال له علاقة ب :

1- الوقت الي اتحدده علشان اتطالع فيه مسلسلاتك.

2- نوعية المسلسلات التي اتطالعها.

"الإنتاج المعرفي" .. لخصها الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه" .. وانت مع العايلة افتح مواضيع عابرة، استفيد من كلامهم، وقدِّم وجهة نظرك (من أنت علشان كلامك يصير صح دامًا أبد الآبدين؟!).. حاول اتكون منتج للمعرفة الي اتقدمها، لا اتصير مخزن للمعرفة وتتوجه لنا في الوسائل الافتراضي بشيء سطحي غير حقيقي، ناس تقره في السوشيال ميديا وايد بدون لا تتفاعل.. هذلين ناس عقلانيين يفضلون يكونون صورة كاملة عن أي قضية قبل لا يعبرون عنها، استخدم وسائل التواصل علشان اتعرف اخبار الناس.. وتستفيد من معارفهم وأفكارهم، إذا حاولت تصنع عالم افتراضي مثالي فأنا أخاف عليك وايد ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا؟ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا)..

 الزبدة: من ميولك حاول تصنع "اليوم الفعّال" .. ويوم عقب يوم بتصنع " عالمك الحقيقي".

محمد حسن يوسف

الأحد، 12 يناير 2020

مدرستين من الحياة


 في الحياة العديد من المدارس التي نستلهم منها الدروس والعبر، ونحتاط من سوء المصير ونتجنب الضرر، تغني تلك الدروس عن ألوفٍ من المحاضرات والدورات الشفوية، تقود الإنسان إلى الاتعاظ أكثر من الألفاظ اللغوية.. ولكن الإنسان غارقٌ في بحر الغفلة، ولا يدري متى تنتهي المهلة (ما زال الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا).

إن الأخطار المحدقة ببني آدم، والتي تدفعه إلى التغيير الحتمي هي ثلاثة امور: الأول هو أن الوقت إذا فات لا يعود، والثاني هو أنك لا تعلم متى ينتهي وقتك، والثالث هو أن أمنيتك الوحيدة عند انتهاء وقتك (أو وقت شخصٍ عزيز عليك)  ستتركز في رغبتك في العودة إلى الوراء ولو قليلًا لتصلح ما أفسدته، أو لتعيد صياغة ماضيك لعل ذلك ينفعك (لعلّي أعمل صالحًا فيما تركت).. فلنتوقف أمام حقيقتين واقعتين لا محالة لكل إنسان.. لنأخذ منهما كل بيان، ليست هذه ساعة الفزع.. فابتعد يرعاك الله عن التعجب والهلع، وانظر في أمرك في هذين الموقفين:

الموت:

ذات يومٍ أمضيت ليلة باكية خائفة، قلت فيها لنفسي : " ماذا لو قُبضت الليلة، هل أنا مستعد؟ هل سأفتتن واُمتحن  وانا في آخر ساعاتي أم سيقبضني ربي قبضًا يسيرًا؟ إلى ماذا سأنظر ؟ (وأنتم حين إذٍ تنظرون) .. هل ستعصرني آلام السكرات .. أم سأذهب مباشرةً في غيابة الأموات؟ إن في القيامة الصغرى "الموت" مدرسة حقيقية.. فالعاقل يتعظ بغيره، فيصلح من نفسه ليطمئن عند آخر ساعة من عمره، يعيش المرء حياةً عريضة ليغير من نفسه خصلة قبيحة .. وأحيانًا يعسر عليه ذلك، فلو سألت نفسك وقلت: "لو رحلت الآن.. ما الذي سيرحل معك؟ أبحِر بعد ذلك في نفسك.. وانظر لحق ربك عليك، هل استوفيته؟ هل ستنتظر إلى رمضان ولياليه المضيئة لتتضرع وتبكي؟ ام ستسأله المعونة وستسعى لتتغلب على نفسك؟ هل انت مطمئن لهذه الدرجة التي تعميك عن سلوكٍ أسودٍ مهلك؟ فخذها من عبد ضعيف .. نحن ما بين خوفٍ ورجاء، رجاءٍ بما عند الله.. وخوفٍ من عذابه.. ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون، فلا تطمئن أبدًا .. فإن وصلت إلى مرتبةٍ فحدث نفسك وقل: "ليس بعد" .. وحدّث نفسك بالموت حديثًا يدفعك للبذل لا الهلع والتكاسل، الموت يفضح الدنيا ويجعلها وضيعة لا تساوي شيئًا .. فكن راقيًا مرتقيًا مترفعًا عن الرذائل والسفاسف، رحم الله من عن دنيانا انتقل .. وألحقنا مع أحبتنا في جنات الفردوس بأبهى الحلل.


الحج:

اختلفت أفكار الإنسان حيال ما سيحدث إذا مات، فأنكر جلهم بعث الإنسان بعد موته.. وكأنه أراد ان ينجو بسوء صنيعه في الدنيا، فأتبع نفسه هواها.. فهو بالشرور والآثام قد دسّاها، فلو كان ذلك فأين تتجلى العدالة؟ أين جزاء شخص صارع شهواته وكبحها فلم يرتكب زللًا ثم مات؟ أين القتلة والمجرمون ومنتهكو أعراضٍ وشعوبٍ ودول.. ما هو مصيرهم؟ أين العصاة والزنا ومرتكبو الآثام.. هل من العدالة أن يتساوى الجميع ثم ينامون ولا يقومون؟! ( بلى وربي لتُبعثُن ثم لتُنبؤن بما عملتم.. وذلك على الله يسير)، إذا ذهبت إلى الحج محملًا بذنوبك .. فتذكر يوم البعث عند خروجك من حفرتك وانت حامل لخطياك وأثقالك إلى محشرك، إذا رأيت الحجاج وقد تهافتوا إلى مواقعهم فتذكر الناس في المحشر.. سنبحث عن أحبائنا وعن من نعرفه بين ألوفِ البشر، وعند تطاير الصحف وبدأ الحساب ستقول "نفسي نفسي" .. ولن تعطيك أمك نصف حسنة قبل أن تضمن مصيرها مع حبها لك، وفي الحج ترى الناس تدعو ربها كلٌ له سؤله وهمه، عيبه وغمه، ذنبه وجرمه، يوم عظّمه خالقه سبحانه فقال : "ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليومٍ عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين". ستقف أمام مولاك وسيسألك عن عثراتك .. نزواتك وشهواتك (لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا) ستظن بأنك واقعٌ في المهالك.. وتأتيك الرحمات في آخر الطريق، كقطرات المطر في أيام عرفة والتشريق.

إن كنت خائفًا من الصراط في الآخرة.. فاسلك الصراط القويم في الدنيا، فصناعة الواقع جزء من صناعة المستقبل (فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره) .. واعمل أن العاقبة للمتصافين، فلا يدخل الجنة الي من جاء بقلب سليم، واصنع لنفسكَ مشاريع يكون ثوابها لك بعد موتك .. ولا تنتظر حتى تموت ليقوم من بعدك بذلك، فلا تدري بأي حال ووقت تموت، وعمّر قلبك بحب مولاك.. ونبيّك الشفيع المحب لك صلى الله عليه وسلم، الذي انتشلك من براثن الجاهلية.. وسيتلقاك عن الحوض إن قاومت وصبرت، اسألك ربي أن تسهل دروبنا إليك.. فإن امتحنتنا وفتنتنا فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا تقبضنا إلا وقد صفّيتنا من عيوبنا، ولا تأخذنا على غفلة، وأدخلنا الجنة من غير سابقة عذاب ولا نظرة عتاب .. وبيّض وجه نبينا فينا، يارب.

محمد حسن يوسف