الأحد، 12 يناير 2020

مدرستين من الحياة


 في الحياة العديد من المدارس التي نستلهم منها الدروس والعبر، ونحتاط من سوء المصير ونتجنب الضرر، تغني تلك الدروس عن ألوفٍ من المحاضرات والدورات الشفوية، تقود الإنسان إلى الاتعاظ أكثر من الألفاظ اللغوية.. ولكن الإنسان غارقٌ في بحر الغفلة، ولا يدري متى تنتهي المهلة (ما زال الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا).

إن الأخطار المحدقة ببني آدم، والتي تدفعه إلى التغيير الحتمي هي ثلاثة امور: الأول هو أن الوقت إذا فات لا يعود، والثاني هو أنك لا تعلم متى ينتهي وقتك، والثالث هو أن أمنيتك الوحيدة عند انتهاء وقتك (أو وقت شخصٍ عزيز عليك)  ستتركز في رغبتك في العودة إلى الوراء ولو قليلًا لتصلح ما أفسدته، أو لتعيد صياغة ماضيك لعل ذلك ينفعك (لعلّي أعمل صالحًا فيما تركت).. فلنتوقف أمام حقيقتين واقعتين لا محالة لكل إنسان.. لنأخذ منهما كل بيان، ليست هذه ساعة الفزع.. فابتعد يرعاك الله عن التعجب والهلع، وانظر في أمرك في هذين الموقفين:

الموت:

ذات يومٍ أمضيت ليلة باكية خائفة، قلت فيها لنفسي : " ماذا لو قُبضت الليلة، هل أنا مستعد؟ هل سأفتتن واُمتحن  وانا في آخر ساعاتي أم سيقبضني ربي قبضًا يسيرًا؟ إلى ماذا سأنظر ؟ (وأنتم حين إذٍ تنظرون) .. هل ستعصرني آلام السكرات .. أم سأذهب مباشرةً في غيابة الأموات؟ إن في القيامة الصغرى "الموت" مدرسة حقيقية.. فالعاقل يتعظ بغيره، فيصلح من نفسه ليطمئن عند آخر ساعة من عمره، يعيش المرء حياةً عريضة ليغير من نفسه خصلة قبيحة .. وأحيانًا يعسر عليه ذلك، فلو سألت نفسك وقلت: "لو رحلت الآن.. ما الذي سيرحل معك؟ أبحِر بعد ذلك في نفسك.. وانظر لحق ربك عليك، هل استوفيته؟ هل ستنتظر إلى رمضان ولياليه المضيئة لتتضرع وتبكي؟ ام ستسأله المعونة وستسعى لتتغلب على نفسك؟ هل انت مطمئن لهذه الدرجة التي تعميك عن سلوكٍ أسودٍ مهلك؟ فخذها من عبد ضعيف .. نحن ما بين خوفٍ ورجاء، رجاءٍ بما عند الله.. وخوفٍ من عذابه.. ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون، فلا تطمئن أبدًا .. فإن وصلت إلى مرتبةٍ فحدث نفسك وقل: "ليس بعد" .. وحدّث نفسك بالموت حديثًا يدفعك للبذل لا الهلع والتكاسل، الموت يفضح الدنيا ويجعلها وضيعة لا تساوي شيئًا .. فكن راقيًا مرتقيًا مترفعًا عن الرذائل والسفاسف، رحم الله من عن دنيانا انتقل .. وألحقنا مع أحبتنا في جنات الفردوس بأبهى الحلل.


الحج:

اختلفت أفكار الإنسان حيال ما سيحدث إذا مات، فأنكر جلهم بعث الإنسان بعد موته.. وكأنه أراد ان ينجو بسوء صنيعه في الدنيا، فأتبع نفسه هواها.. فهو بالشرور والآثام قد دسّاها، فلو كان ذلك فأين تتجلى العدالة؟ أين جزاء شخص صارع شهواته وكبحها فلم يرتكب زللًا ثم مات؟ أين القتلة والمجرمون ومنتهكو أعراضٍ وشعوبٍ ودول.. ما هو مصيرهم؟ أين العصاة والزنا ومرتكبو الآثام.. هل من العدالة أن يتساوى الجميع ثم ينامون ولا يقومون؟! ( بلى وربي لتُبعثُن ثم لتُنبؤن بما عملتم.. وذلك على الله يسير)، إذا ذهبت إلى الحج محملًا بذنوبك .. فتذكر يوم البعث عند خروجك من حفرتك وانت حامل لخطياك وأثقالك إلى محشرك، إذا رأيت الحجاج وقد تهافتوا إلى مواقعهم فتذكر الناس في المحشر.. سنبحث عن أحبائنا وعن من نعرفه بين ألوفِ البشر، وعند تطاير الصحف وبدأ الحساب ستقول "نفسي نفسي" .. ولن تعطيك أمك نصف حسنة قبل أن تضمن مصيرها مع حبها لك، وفي الحج ترى الناس تدعو ربها كلٌ له سؤله وهمه، عيبه وغمه، ذنبه وجرمه، يوم عظّمه خالقه سبحانه فقال : "ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليومٍ عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين". ستقف أمام مولاك وسيسألك عن عثراتك .. نزواتك وشهواتك (لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا) ستظن بأنك واقعٌ في المهالك.. وتأتيك الرحمات في آخر الطريق، كقطرات المطر في أيام عرفة والتشريق.

إن كنت خائفًا من الصراط في الآخرة.. فاسلك الصراط القويم في الدنيا، فصناعة الواقع جزء من صناعة المستقبل (فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره) .. واعمل أن العاقبة للمتصافين، فلا يدخل الجنة الي من جاء بقلب سليم، واصنع لنفسكَ مشاريع يكون ثوابها لك بعد موتك .. ولا تنتظر حتى تموت ليقوم من بعدك بذلك، فلا تدري بأي حال ووقت تموت، وعمّر قلبك بحب مولاك.. ونبيّك الشفيع المحب لك صلى الله عليه وسلم، الذي انتشلك من براثن الجاهلية.. وسيتلقاك عن الحوض إن قاومت وصبرت، اسألك ربي أن تسهل دروبنا إليك.. فإن امتحنتنا وفتنتنا فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا تقبضنا إلا وقد صفّيتنا من عيوبنا، ولا تأخذنا على غفلة، وأدخلنا الجنة من غير سابقة عذاب ولا نظرة عتاب .. وبيّض وجه نبينا فينا، يارب.

محمد حسن يوسف