الاثنين، 29 يناير 2018

النجاة من طريق التخلف


كنّا في ورشة تدريبية حول أخلاقيات المهنة قبل سنوات، وجرنا الحديث  مع المتحدث إلى مسألة ربط حزام الأمان في السيارة، فرفع أحدهم ييده قائلًا: " لم اربط حزام الأمان قط". فرد عليه المدرب بأسلوب لا أعرف كيف اقيمه.. لكن الغرض من رد المدرب كان زجر هذا الشخص وتوجيهه لربط حزام الأمان بقوله: "إذًا، فأنت متخلف عن الركب الحضاري". فما كان من "بوأحمد" إلا أنه استمر في عدم ربط الحزام.


التخلف (أي البقاء في الخلف) ليس بالأمر الذي يطلبه الإنسان بفطرته، بل العكس تمامًا.. فالإنسان مع مراحل الحياة المختلفة تجده يحاول أن يحسن من طرق عيشه ويترك الأثر، وأن يكتشف هذا الكون  ومن خلقه وإلى أين المصير، وبالنظر إلى حال المجتمعات السالفة والأمم الغابرة نجد بأن قوم عادٍ في الأحقاف تركوا من الأثر ما يصنف بأنه  حضارة عريقة (إرم ذات العماد)، ولكنهم لما أعرضوا عن السبب الحقيقي خلف وجودهم وهو الوصول إلى الخالق وعبادته ورضاه انتهت تلك الحضارة المادية، وتحولت أجسادهم القوية بفعل الريح إلى أعجاز نخلٍ خاوية، وكذلك العرب قديما.. فكم من معلقات شعرية خطتها أيديهم لازالت خالدةً إلى اليوم، مع ازدهار الحركة التجارية بين مكة المكرمة والشام، وفي ظل الإنتعاشات الاقتصادية بوجود  الحرم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على ذلك الزمن لفظ "الجاهلية".


التخلف العقائدي:

هاهي قريشٌ قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم تركع وتسجد لأصنام صنعتها، تعتقد بأنها تنفع وتضر من تلقاء نفسها، تذبح "الجزور" على اعتاب "العزّى" طلبًا لرضاها، يصنع أحدهم الصنم من التمر يعبده ويبجله، حتى إذا جاع أكل ربه، يخيّرون أصنامهم في امورهم الحياتية، وكأن الأصنام تنطق أو تعقل.

كأن غشاوةً غطت عقول القوم آنذاك فلا يبصرون ولا يهتدون سبيلًا فرمى بهم ربهم الأعلى إلى ذيل الأمم، وتقدم الأحباش والفرس والروم، وذلك من سنن الله في كونه، فإن لم تؤدي حق الله سبحانه وترجو الوصول إليه  فإن الله سيوكلك إلى نفسك.


فكن لنا ولا تكن علينا .. ولا تكلنا طرفةً إلينا

فما اطلقنا قوة للدفع .. وما استطعنا حيلة للنفع


بعضهم يرفض فكرة الإله الخالق البارئ من الأساس، والبعض الآخر يؤمن به.. فإذا جاءت التشريعات والأوامر الإلهية عكس ما يرغب ويريد نكص على عقبه، واختار من شرع الله ما يلائم رغباته ونزواته، وكأن شرع الله ثوبٌ نفصله على مقاسنا (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ, هذا محالٌ في القياس بديعُ

لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ, إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ


تلك العلاقة بين الرب والعبد، الرب يأمر فيُطاع.. والعبد ما بيده غير التسليم والإذعان، والتبرير وإعطاء الحكم أسلوب لا يستخدمه المولى في كل موضع ( لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون).. ولكنه تعالى يبرر أحيانًا .. ويضرب لنا المثل المادي لنستوعب ونفهم، وذلك من رحمته بنا سبحانه، ويُعرض أحيانًا فيأمرنا بدون ذكر سبب أو تلميح لحكمة، لأنه هو العظيم القهار الجبار.. فهل كانت علاقتنا مع مولانا علاقة حب لمن أنعم علينا وهدانا سبيل الوصول إليه؟ أم كانت مجرد فعل أشياءٍ تعودنا على فعلها.. أو لجوءٍ في الشدائد ونسيانٍ في الرخاء (فلما نجّاهم إلى البر إذا هم مشركون)؟



التخلف الأخلاقي:

يسير الرجل بابنته إلى صحراء قاحلة، يحفر حفرة فتتوسخ ثيابه من غبار التربة، تأتي البنت المسكينة لتمسح الغبار عن كتف أبيها ولم تعلم أن الحفرة التي أعدها والدها كانت لها، ليتم وأد المسكينة ودفنها خشية العار والشنار، فقط لأنها أنثى.


قويهم يأكل ضعيفهم، أشتاتٌ متناحرون، حروب تندلع ولا تخمد بسبب حصانٍ سبق آخر، خصومات وثارات، تفرق الشمل وضُعفت الكلمة، فساد التخلف الديار، ولم يحسب لهم عند الأعداءالحساب، وكأن التاريخ لا يمل من أن يعيد نفسه. فواقعنا مليء بالتجاوزات الأخلاقية انطلاقًا من البيت والتعامل مع الوالدين والزوجة، صلة الأرحام، المجتمع وما يحتويه من مخالفات كالغيبة والنميمة والفساد والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، كل ذلك مما يجعل المجتمع طبقاتٍ وفئاتٍ يتربص بعضها ببعض، حتى إذا أشرفت الفتنة كانوا لها وقودًا وشعلة على بعضهم، وإذا قدم عدوهم كانوا كالأرانب في حضرة الأسود.


ذلك كان حال قريشٍ والعرب بكل عام، حتى إذا بشّر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بقهر الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية سخر المشركون منه عليه الصلاة والسلام، فمن تفرق شتات العرب أصبح شأن الأعاجم والروم عظيمًا في صدورهم، فاستصغروا ذواتهم في جنب عظماء وجبابرة الأرض، فلما اصبحوا بحبل وثيق مع خالقهم... وأسسوا مجتمعهم على الأخلاق بين جميع فئات المجتمع وأطيافه  بزرع الترابط والحب (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بين قلوبهم) كان سقوط الروم في الشام ومصر، وسقوط المدائن في بلاد فارس بيد المسلمين، فتقدم المسلمون في مجالات الحرب والفلك، الكيمياء والفيزياء، الطب والرياضيات، علم الاجتماع والجغرافيا، وانفتحنا على الحضارات من حولنا واستفدنا من علومهم.


ذلك التقدم الحضاري المزدهر كان مستندًا على عقيدة مرتبطة بالله عز وجل في كل مناحي الحياة وليس في المسجد فقط، فالمسجد مركزٌ نتلقى فيه التعليمات لنطبقها في المجتمع لا لنفتح افواهنا وأعيننا متأثرين.. فإذا خرجنا من المسجد تبخّر ما سمعناه، لو سألت أعرابيًا في نجدٍ قائلًا:" هل تتصور بأن المسلمين سيدخلون القسطنطينية.. معقل الحكم البيزنطي؟ لرمى بعقلك إلى الجنون وأحلام اليقظة، ولكن المسلمين فعلوها ودكّوا حصون قسطنطين بسلطانٍ مسلم لم يتجاوز عمره اثنان وعشرون سنة، مستندًا على بشارات معلميه ومرشديه وملهميه، وبما أنعم الله سبحانه عليه من علوم الحرب والفلك والرياضيات، وبما يمتلكه رحمه الله من حبٍ لله قد ملأ فؤاده، الأحلام كبيرة.. وليس على الله سبحانه شيءٌ ببعيد، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.



محمد  حسن يوسف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق